عند قراءة تاريخ البشرية الذي شهد سلسلة من الحروب والتي لن تنتهي ، سنخلص إلى أنه من المستحيل أن يعيشوا البشر بسلام .. وفي أجواء الحروب عادة ما تظهر العديد من الأسئلة ، ليست فقط الأسئلة المتعلقة بالحرب بعينها بل عن طبيعة الحرب نفسها وأسباب نشوبها ولو أن لها مبرراتها وظروفها الإستراتيجية وأسبابها، ولماذا يصعب على البشر أن يعيشوا بسلام على أرض الله الواسعة ، وهل هناك ما يمكن أن يفسر كل الدمار والعنف والإقتتال الذي يكون غير مبرر في معظم الحالات …
وبالمطلق في الحروب والنزاعات بالمفهوم العسكري لا يمكن أن نتحدث أخلاقيا وإنسانيا عن رابح ، لأنه في كل الحالات هي خسارة ودمار وزهق للأرواح …
ومن البديهي أن الحرب التي أطلقها فلاديمير بوتين على أوكرانيا قد غيرت العالم ، مثل “سقوط جدار برلين “و”هجمات الحادي عشر من سبتمبر”، وحتما سيناقش المؤرخون طويلا أسباب حرب بوتين ، وكيف ترك الغرب نفسه في مواجهة الخيار المروع بين الوقوف محايدة ، أو من خلال التدخل ، والمخاطرة بنشوب حرب عالمية لها إرتدادات على كل أرجاء العالم …
حتما الحرب الروسية على أوكرانيا هي إيذانا ببدء مرحلة جديدة في تاريخ البشرية، حيث يكون سباق التسلح هو العنوان الأبرز لها مقابل تشديد الفقر والعوز وتقويض مساحة الأمن والسلام، من خلال صراع للقوى الدولية للهيمنة والنفوذ لتشكيل نظام عالمي جديد .. كما أن الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة مثل القانون الدولي وحقوق الإنسان والديمقراطية تجرى عليها صياغات جديدة مطعمة بلغة ومفردات قومية وحتى تصل إلى النازية ، بحيث تتلائم مع الصراع المحتدم بين الأقطاب الدولية والإقليمية التي ستتشكل ما بعد هذه الحرب.
فلا صوت يعلو فوق صوت قرقعة الإعلام الغربي بكل وسائله الحديثة في أوكرانيا، لتصبح حربا إعلامية بإنتياز لها تأثيرا سيكولوجيا على الرأي العام الدولي .. وبفضل نظرية “من ليس معنا في شيطنة كل شيء روسي فهو ضدنا” السائدة التي تذكرنا بخطاب بوش الإبن بٌعَيّدَ تفجيرات الحادي عشر من أيلول الإرهابية في نيويورك عام ٢٠٠١، في ذلك الوقت كان العالم متعاطفا مع ضحايا تلك التفجيرات، ولذلك مر مرور الكرام ما تفوه به بوش الإبن بما فيه جملته الشهيرة “إن حربه العالمية ضد الإرهاب هي حرب صليبية”.. نفس السيناريو يتكرر اليوم ولكن بشكله التراجيدي، فصخب الإعلام الغربي بشكل ممنهج ومخطط لطمس الحقائق ما وراء الحرب الروسية في أوكرانيا تملأ أجواء العالم، وهناك أصوات قليلة في الغرب تعلو لتكشف عن مدى نشر الكراهية وممارسة العنصرية السافرة وقمع الحريات السياسية وحق التعبير.. هنا لا ندري هل نحن بالفعل محظوظين لأننا لم نولد إبان فترة الحرب العالمية الثانية التي لم تتوفر فيها وسائل إعلام وشبكات التواصل الإجتماعي وإنترنت كي ندرك نعمة الوصول إلى المعلومة والحقيقة.
وإذا ما أخذنا بمنطق معظم الإعلام الغربي والأمريكي الذي يسوق لصورة بوتين بأنه مجرم حرب وشخص مهووس عقليا، أو مجنون، أو يعاني التوحد… لأنه قام بغزو أوكرانيا ليخفي ذلك الإعلام ماهية النظام الراسمالي وصراع الوحوش الإمبريالية على تقاسم العالم، فبنفس المنطق يمكن بسهولة الإكتشاف بأن بايدن هو الآخر مجنون ولا يعي ما يفعله عندما يستيقظ كل يوم ليعلن عن حزمة عقوبات إقتصادية على روسيا ضاربا بعرض الحائط مصالح الدول وخاصة الأوروبية ، حيث ترتفع الأسعار بشكل مهول ويزداد التضخم ويحرم الملايين من شعوب العالم من الحصول على مقومات المعيشة في الغذاء والطاقة …
كما كشفت الحرب معضلة الولايات المتحدة الامريكية وهي تضع مجبورة كل بيضها في سلة أوكرانيا، وبينت هشاشة مكانتها وموقعها السياسي.. فهي وصلت تتوسل إلى الصين لفصل التحالف بينها وبين روسيا، وتذهب إلى إيران وفنزويلا لتعويض نقص النفط وتخفيض أسعاره في السوق العالمية ، بعد أن صورت للعالم أنهما محور الشر، وها هي تلهث من جهة آخرى لإبرام صفقة حول الإتفاق النووي الإيراني.. كما فشلت الضغوطات الإمريكية والبريطانية على السعودية ودولة الإمارات في فتح خزاناتها لتدفق النفط لخفض الأسعار، إلى جانب ذلك يٌسّتَقبَلّ بشار الأسد بحفاوة في دولة الإمارات لتطوى صفحة عزلة نظامه سياسيا وإقتصاديا، وبذلك يضاف إلى سجل إنتصارات روسيا في المنطقة والعالم وضربة جديدة لأمريكا التي مازالت تعتبر نفسها القوة العظمى الأوحد .
أخيرا بتقديري الفرصة الوحيدة لمواجهة هذه التحديات هو تشكيل نظام عالمي جديد عادل ومتوازن وظهور قطب عالمي ديمقراطي وإنساني آخر، أقطاب قادرة على كبح جماح الصراع المحتدم بين الدول الإمبريالية العالمية التي تتخندق حولها الأقطاب الإقليمية أو تحتمي بظلها، وإنهاء الهيمنة الامريكية على العالم وأيضاً نفوذ الدول الأوروبية التي مازالت تحمل الفكر الإستعماري وتريد إستعباد البشرية والتدخل في شؤون دولهم البائسة في دول العالم الثالث .
رمضان مبارك وكل عام والبشرية بخير وأمان وسلام