حدث بوزن سقوط نظام الأسد ، الذي حكم مع والده أكثر من خمسة عقود، لابد أن يكون له ارتدادات وتداعيات مفصلية على سياسات المنطقة والعالم، لما أحدثه من تغييرات جذرية في التوازنات الجيوسياسية ومعادلة القوة في المنطقة وإقليميًا.
وبالتالي بدأت تتشكل خارطة جديدة من التحالفات وفقاً للرؤية الأمريكية تجاه سوريا التي أعطت لتركيا، اللاعب الكبير، دور الوصاية على الحكم الجديد في سوريا ومنحت إسرائيل دور إدارة المشهد في خطة شرق أوسط جديد …
الأحداث أصبحت متسارعة بالمنطقة ، والمتغير السوري الذي أذهل الجميع رافقته أسئلة شرعية عن صورة ومستقبل سوريا من ناحية النظام السياسي وهوية الحكومة الانتقالية التي ستشكلها الحكومة المؤقتة بعد إعلان مؤتمر الحوار الوطني، الذي لم يحدد بعد .. لكن لا شك أن طبيعة القوى الجديدة، التي تحكم سوريا اليوم بعدما غيروا مظهرهم الخارجي بارتداء البدلة وربطة العنق ، معروف هويتهم الايديولوجية والفكرية من خلال ارتباطهم سابقا بالسلفية الجهادية وبالقاعدة ، حتى لو غيروا خطابهم ، هذه الدلالات تفرض مؤشرات مقلقة للغاية لبعض الدول الذين يتخوفون من الإسلام السياسي ومازالوا حذرون نسبيا من قرار التطبيع معهم للعودة للحضن العربي ، وحتى للسوريين الذين هللوا لسقوط الأسد كرمز للدكتاتورية والفساد وليس قناعة بهوية الحكام الجدد.
وبذلك منحت الحكومة الجديدة تأييدا منذ سقوط الأسد في الداخل وبالخارج من خلال الدعم الذي حظيت به هذه الحكومة المؤقتة التي يترأسها أحمد الشرع الذي نصب نفسه رئيسا مؤقتا لسوريا بدون أي شرعية أو آلية دستورية وقانونية ولكن بمبايعة رفاقه من الجماعات المسلحة خلال خطاب النصر ، وهو أبو محمد الجولاني سابقا الذي دخل الشام فاتحا بصحبة رفاقه من المجاهدين العرب والأجانب والفصائل المسلحة، حيث يركزون على الاستقبالات والزيارات الخارجية لتحقيق هدفين أساسين في هذه المرحلة وهما: الحصول على اعتراف هذه الدول بهم من خلال التسويق لصورتهم الجديدة ، وتلقي دعم مالي واقتصادي عاجل يمكّن الحكومة من تثبيت أركانها وتسيير أعمالها.
لقد بات واضحا من هم أصحاب الحقائب الوزارية الذين انتقلوا من ادلب للشام ، هذه الحكومة ذات اللون الواحد التي جعلها الإعلام الموجه بمثابة المنقذ من الظلم والاستبداد، بعد تسويق مشاهد مبالغ فيها تم سردها من الإعلام عن الانتهاكات والسجون وفساد النظام المخلوع للتأثير على الرأي العام في الداخل والخارج .
لذلك فلا غرابة في رؤية جميع الدول العربية اليوم منشغلة بالمغازلة السياسية وبترتيبات زيارات الوفود العربية والأجنبية لقصر الشعب بالشام لإستكشاف المرحلة الجديدة في دمشق وللقاء القادة الجدد في سوريا، بقيادة أحمد الشرع الذي تحول من فصيل ارهابي إلى الحاكم ، ما يضفي عليهم نوعاً من الشرعية ويشكل قوة دفع لهم.
اللعبة مستمرة، وهي أكبر من الكل.. خيوطها عند أمريكا لكنها بيد النظام التركي الذي يتولى ترتيب الأمور كراعي للعملية منذ بداية سقوط نظام الأسد، حيث أعرب منذ أول يوم عن فخره لما خططه ونفذه …
في سياق كل هذه الأحداث المتسارعة ، وفي المقابل لا يعرف إلى يومنا هذا الآلية التي ستتحقق فيها عدة ركائز في سياق مسار الانتقال السياسي، منها فتح سجن ادلب الذي لا يتحدث عنه أحدا ، والعدالة الانتقالية لشعب يطالب بالمحاسبة والعدالة وبفتح جراح الماضي لحرب دامية دامت 14 عاما من النزاع بإسم “الثورة السورية “، حيث يعتبر ملف العدالة الانتقالية من الملفات الأكثر تعقيدا في الحالة السورية، بسبب حجم الجرائم التي ارتكبت في السنوات الماضية من قبل معظم الأطراف ، النظام والمعارضة المسلحة .
كما تطالب فئة من الشعب أيضا بمحاسبة هذا الفريق الفاتح للشام والذي أصبح أمرًا واقعا بسوريا الجديدة، في إطار محاسبتهم كقادة سابقين بجبهة النصرة التي انشقت عن القاعدة وتحولت إلى “هيئة تحرير الشام” والتي تم توثيق كل الانتهاكات والمجازر والقتل والتنكيل في حق الشعب السوري من قبل المنظمات الحقوقية الدولية، وفي هذا الإطار تم المطالبة بتنحية وزير العدل في الحكومة المؤقتة ومحاكمته جراء كل الجرائم التي اقترفها في زمن الجهاد في تنظيم مازال محظورا ومدرجا دوليا على لائحة الإرهاب ، رغم أنه تم حله في خطاب النصر .
للتذكير فقد ظهر وزير العدل الجديد قبل سنوات وهو يقيم الحد على امرأة في الشارع بتهمة الزنا ، في ظل غياب الدولة ، كما سبق وظهر وزير الدفاع الجديد قبل سنوات قليلة وهو يمسك بتمثال للسيدة العذراء ويكسره في استهداف للمكون المسيحي.. لقد كانت لهم سابقة في العراق قتلا وتخريبا ومع ذلك وضعهم المخطط الدولي على رأس قيادة سوريا الجديدة لتأمين الطريق نحو شرق أوسط جديد، تكون سوريا فيه بمثابة دولة منزوعة السلاح بعيدة عن “محور المقاومة”، الذي انتهى بنهاية الحرب في غزة ولبنان ، وبمنأى عن كل الصراعات لتصبح مركز سلام للمنطقة ، يسعى من خلاله الاحتلال الاسرائيلي اليوم لتحقيقه وبسط نفوذه بالمنطقة بعودة الرئيس ترامب للحكم، وهو في كلّ هذه المعادلة يبدو الرّابح الأوفر حظّا.
إنّ الأخطاء التي تفرض نفسها في قلب هذه التناقضات التي تتطور بشكل يومي خاصة بعد تنصيب أحمد الشرع نفسه رئيسا للمرحلة الانتقالية بدون استشارة الشعب ومن خلال انفراده مع جماعته بالحكم ، تزيد من تخوف بعض الأقليات من الاجتثاث الذي تمارسه الجماعات المسلحة التابعة لهم بإسم ملاحقة “فلول نظام الأسد” من خلال القتل والتنكيل والتهجير حسب العرق والهوية الطائفية تحت مسمى “حالات فردية”، خاصة بمناطق الساحل، ستدفع بإتجاه ضبابية المشهد لحكام الأمر الواقع الذين وعدوا بتشكيل حكومة انتقالية شاملة بعدما تم تعطيل الدستور وحل كل مؤسسات الدولة، ولكن ممارساتهم تؤكد أن الفترة ستطول بما أن مرحلة كتابة الدستور والمرور للانتخابات ستستغرق أربع سنوات، وخاصة بعد كل القرارات التي تم اتخاذها والمراسيم التي تم تنفيذها .. وبالتالي فقد منح أحمد الشرع نفسه ولاية رئاسية انتقالية كاملة مجهولة الملامح ، رغم ما ذكره في خطابه الموجه للشعب من رسائل مطمئنة نسبيا لكل السوريين .
ويبقى السؤال : من سيحاسب من في سوريا الجديدة ؟؟؟