غيّب الموت الصحفي البريطاني ديفيد هيرست عن عمر (89 عاما)، بعد قرابة 5 عقود من الكتابة المتخصصة عن الشرق الأوسط، وتغطية التغييرات الدراماتيكية فيه، ورغم شخصيته التي اتسمت بالهدوء، فإن مقالاته العميقة والجريئة كانت مفتاحا لفهم الاضطرابات في المنطقة، وفق وصف صحيفة الغارديان البريطانية، التي بدأ العمل معها عام 1964.
وبحسب الصحيفة التي نعت هيرست، فقد قضى الصحفي المخضرم وزوجته العقد الأخير من حياتهما في فرنسا، يشاهدان كل مساء أخبار وتحليلات قناة الجزيرة، التي كان يصفها بأنها “جيدة وصادقة للغاية”.
نشأته حتى وفاته
ولد في إنجلترا عام 1936، ونشأ في أسرة إنجليزية من الطبقة المتوسطة، وقضى عامين في الخدمة الإلزامية بين عامي (1954-1956) برتبة جندي في مصر وقبرص، حيث كان القبارصة اليونانيون يقاتلون من أجل إنهاء الحكم الاستعماري البريطاني.
درس هيرست في جامعة أكسفورد، قبل أن يعود إلى الشرق الأوسط كطالب في الجامعة الأميركية في بيروت حتى عام 1963، وأصبح يتقن اللغة العربية.
وتزوج عام 1995 من أمينة، وهي عالمة أنثروبولوجيا اجتماعية من أصل مصري.
وتوفي في 22 سبتمبر/أيلول 2025.
مسيرة حياتية طويلة
بدأ هيرست مسيرته الصحفية في الصحافة البريطانية، لكنه أصبح معروفًا بشكل خاص بتغطيته المعمقة للصراعات السياسية والحروب في الشرق الأوسط، مع التركيز على النزاعات العربية‑الإسرائيلية والسياسات الداخلية للدول العربية.
وفي العام التالي، بدأ الكتابة لصحيفة الغارديان، من مقره في بيروت وقبرص، واستمر في ذلك حتى عام 2001، وبعد ذلك قدم مساهمات من حين لآخر، إلى عام 2013.
ومن بين الصحف الأخرى التي كتب لها “كريستيان ساينس مونيتور”، وآيرش تايمز، و”سانت بطرسبرغ تايمز” في فلوريدا، ونيوزداي، و”سان فرانسيسكو كرونيكل”، وديلي ستار في لبنان.

كتابة جريئة وتحقيقات مثيرة للجدل
عرف هيرست بأسلوبه الجريء والصريح في الكتابة، فقد تناول ملفات حساسة وتطرق إلى القضايا التي كثيرًا ما تجنبها الصحفيون الآخرون.. مقالاته وتحليلاته لم تكن مجرد أخبار، بل كانت قراءة معمقة لأحداث الشرق الأوسط، بما فيها الحروب، الأزمات السياسية، والتحولات الاجتماعية.
كما كتب هيرست عدة كتب تناولت الصراعات الإقليمية، وكانت محط جدل واسع لما تطرحه من آراء ومعلومات دقيقة، جعلته صوتًا مؤثرًا في الإعلام الغربي عند متابعة أحداث المنطقة.
نقده لإسرائيل
وكان أسفه الوحيد -وفق الغارديان- بعد تشخيصه بمرض السرطان (توفي بسببه) هو ضيق الوقت أمام إنهاء الطبعة الجديدة من كتاب “السلاح وغصن الزيتون.. جذور العنف في الشرق الأوسط”، الذي أحدث عاصفة عند نشره لأول مرة عام 1977 (تبعته طبعات محدثة في عامي 1984 و2003)، ووصفته مجلة “نيو ريبابليك” الأميركية بأنه “أكثر الكتب المعادية لإسرائيل التي نُشرت باللغة الإنجليزية”.
وعلقت الصحيفة بأن ذلك لم يكن مفاجئا لها، إذ كانت تتلقى انتقادات دورية من مسؤولي السفارة الإسرائيلية لما اعتبروه تغطية متحيزة من هيرست.
وفي مقال كان عنوانه “هل إسرائيل في طريقها إلى الجنون؟” ونُشر في “ميدل إيست آي” في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عاد هيرست إلى منتصف القرن الأول الميلادي وأيام الحرب بين “المتطرفين والهلينيين”، واصفا الصهاينة المتدينين في إسرائيل اليوم بالمتطرفين.
وتنبأ في المقال بانتهاء إسرائيل جراء الانقسام الداخلي، كما حدث أثناء الصراع مع الرومان، “كان آنذاك انقساما مجتمعيا جوهريا، لا يختلف عن ذلك الذي يحدث في إسرائيل اليوم، ومساهما حاسما في الكارثة النهائية، الغزو الروماني، وتدمير الهيكل، والتشتت النهائي لليهود في منفاهم لقرون قادمة”.
انتقاد عرفات والثناء عليه بالوقت نفسه
وواكب هيرست حرب حزيران عام 1967 والحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وكان من بين الصحفيين القلائل الذين قاموا بتغطية الأحداث من مدينة حماة السورية عام 1982.
وفي تقرير له عام 2011، انتقد هيرست الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وتحدث عن “رغبته المهووسة في السيطرة والهيمنة الشخصية، وتدخله في أدق تفاصيل الإدارة، ومكره وغرابة أطواره، وتفضيله للولاء على الكفاءة، واستعداده على الرغم من عدم اهتمامه بالثروة والرفاهية، لاستغلال ضعف من حوله، الذين يهتمون بذلك، من خلال المحسوبية والفساد”.
ومضى قائلا إن الزعيم لعب “دور المتعاون الذي تتطلبه منه اتفاقيات أوسلو”، كما أثنى عليه بالقدر نفسه واصفا عرفات بـ”الشجاعة الجسدية في مواجهة الخطر المميت، والتفاني والاجتهاد، والعمل حتى الساعة 4 صباحا”.