تباينت المواقف وإختلفت الآراء خلال الحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة وأهلها العزل الذين قضى منهم أكثر من 15 ألف شهيد أغلبهم من الأطفال والنساء …
حرب شعواء دمرت كل شيء في غزة ..البشر والحجر وكل دابة على الأرض ، فضحت إزدواجية المعايير لدى القوى العظمى التي كانت تتشدق بحقوق الإنسان ، وغابت عنها الإنسانية والقوانين الدولية .
وبينما يتعايش الناس مع هذا العجز، يقدم زعماء سياسيون في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا رواية أخرى غير دموية للحرب، تتجاهل فيما يبدو الحقيقة وحصيلة الوفيات ، وتلجأ بدلا من ذلك إلى لغة سيريالية تدعو إلى إتخاذ الإحتياطات الممكنة لحماية حياة المدنيين، حيث أدى هذا الإصرار الغريب إلى عدم تسمية الواقع كما هو.. وصل الأمر بهم إلى تسمية كل العمليات العدائية الإجرامية التي يقوم بها الإحتلال الإسرائيلي بالدفاع عن النفس ، وبالتالي كشفت هذه الحرب اللاإنسانية الطبيعة الوهمية للقانون الدولي وعجز مجلس الأمن لإيقاف هذه الحرب المدمرة، التي أدت إلى القضاء على عائلات بأكملها، ونزوح الآلاف، وقتل ما يقدر بنحو 6000 طفل في أقل من شهرين، وتيتم وتشريد غيرهم وحرمانهم من الغذاء والماء والدواء في قطاع غزة المحاصر الذي أصبح الآن، وفقا لليونيسيف، أخطر مكان يمكن العيش فيه في العالم.
فقد أصبح الدرس هنا قاس وموجز وموجع ، وهو أن حقوق الإنسان ليست أمرا متفقا عليه عالميا، والقانون الدولي تحكمه القوى العظمى ويطبق بشكل إنتقائي وغير عادل .
فيما رفضت هذا السلوك الصهيوني الغاصب المتجبر تجاه أهل غزة عدة شخصيات بارزة في العالم الذين رفضوا ونددوا وقطعوا العلاقات مع الكيان الصهيوني ، أظهر الأغلبية وقوفهم مع المحتل الذي إرتكب جرائم حرب في حق شعب أعزل ، كما خرجت الشعوب في كل أصقاع الأرض متضامنة مع أهل غزة وهذا ما أجبر بعض الحكام لتغيير مواقفهم للحد الأدنى من حفظ ماء الوجه من خلال التنديد بالحرب .
فلم تكن مثلا الشاعرة الأمريكية ” آن بوير ” لتستقيل من وظيفتها في مجلة ” نيويورك تايمز ” لولا الضمير الحي والإنحياز إلى القيم الإنسانية ، التي كتبت ” لقد أصبحت قلوبنا ضيقة وثقيلة بسبب هذه الحرب .. لأنها ليست حرب صواريخ وغزو بري فحسب ، بل إنها حملة متواصلة ضد شعب فلسطين الذي يقاوم عقودا من الإحتلال والتهجير القسري والحرمان والحصار والسجن والتعذيب “.
ولم تكن الشاعرة ” آن بوير” الكاتبة الغربية الوحيدة المستقيلة من عملها تضامنا مع الشعب الفلسطيني ورفضا للجرائم الصهيونية ، فقد تابعنا عدة إستقالات خاصة من طواقم إعلامية من ال بي بي سي الذين كانوا رافضين عدم نزاهة ومصداقية تغطية الحرب في مؤسساتهم الإعلامية …
ولم تختصر هذه المواقف على أصحاب الأقلام والرأي ، بل إنتقلَت إلى بعض السياسيّين والبرلمانيّين الغربيّين، كما هو حال عضو البرلمان الإيرلنديّة “كلير دالي” التي هاجمت بشدّة رئيسة المفووضية الأوروبيّة “أورسولا فون دير لاين” لموقفها الداعم للكيان الصهيوني في قتله النساء والأطفال، داعية إيّاها إلى غسل يديها من دماء الأطفال الفلسطينيّين في غزّة بعد أن أحال الإحتلال شوارعها وأبنيتها أنقاضاً ممتلئة بدماء الأطفال، وهي الدماء التي تعطّرت بها أيادي بعضِ الأمهات الفلسطينيّات بعد أن استشهد أطفالهن بين أياديهن .. أيضاً جاء موقف رئيسا الحكومة الإسباني والبلجيكي الذان أحرجا الإتحاد الأوروبي ، حيث نددا بالقصف الإسرائيلي الدموي والمدمر على أهل غزة ودعوا إلى الإعتراف بدولة فلسطين .
كما تابعنا موقف بعض الإسرائيليين الدعاة للسلام ، منهم المؤرخ الإسرائيلي ” إيلان بابيه” صاحب كتاب ” التطهير العرقي في فلسطين “، الذي نذر حياته لفضح ممارسات الكيان الصهيوني الإجرامية .. وفي هذا السياق كتب بموقع ” وقائع فلسطين ” مقالا مهما” أعلن فيه دعمه للشعب الفلسطيني المناضل من أجل البقاء ، مؤكدا أن الحكومة الإسرائيلية ليس في مقدورها أن تلعب دور الضحية ، ولا سيما أن قطاعات كبيرة من المجتمع المدني الغربي لا يمكن خداعه بسهولة بهذا النفاق الذي تجلى في المقارنة مع الحالة الأوكرانية “.
لقد أثبت العدوان الصهيوني على غزة أن المثقف الحقيقي هو المثقف الذي يحمل ضميرا حيا وقيم إنسانية أيا كانت ديانته أو عرقه أو جنسيته ، ونجح في تعرية بعض دعاة الثقافة من العرب الذين إنحازوا إلى الباطل ، وأصبحوا في صنف المتخاذلين من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة الرخيصة .
فدرس حرب غزة علمنا أن القانون الدولي مجرَّد حبر على ورق، وأن حقوق الإنسان كذبة كبيرة، وأن الدم الفلسطيني رخيص ، وأن الحق يُنتزع إنتزاعا ولا يُستجدى .. وعلمنا أن تحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها ممكن، وأنَّ ما حدث هذه المرَّة ما هو إلا “بروفة” مصغَّرة لما سيأتي مستقبلا …
وقد علّمتنا غزّة أنَّ العقيدة سلوكٌ وإيمان وصبر .. لم نرَ منهم ساخطاً على قضاء اللهِ، كانوا يجمعون أشلاء أحبائهم في أكياس ويحمدون ربَّهم، يمسحون دموعهم بيد ويتابعون الجمع بيد أُخرى، عقيدتهم إمتلأت بها قلوبهم ففاضتْ على جوارحهم .. ولسان حالهم “الحمد لله والله أكبر على من طغى وتجبر” .