كارثة إنسانية مهما كُتب عنها، تبقى الحروف عاجزة عن وصف هولها، لم يكن أحدا يتخيل زلزال بهذه القوة يقضي على عشرات الآلاف من الضحايا ويترك مئات الآلاف مشردين .. بل إن تبعات الفاجعة قد تمس أكثر من 100 ألف إنسان، ويشمل الرقم آلاف الأطفال اليتامى الذين قضوا أهاليهم في الزلزال بسوريا وبتركيا .. حيث شكلت الكارثة المفاجئة صدمة كبيرة لدى الرأي العام الدولي ، ومشاهدها وصفها البعض بأنها من يوم القيامة،.
يبدو أن قدر السوريين أن يصارعوا النكبات والحروب والحصار، في ظل إنعدام أي حسّ إنساني لدى دول بالعالم تدّعي الإنسانية .. فالزلزال المدمّر كشف زيف دول كبرى التي تعاطت مع الكارثة بتركيا وسوريا بإزدواجية المعايير، وكشف أيضاً إدعاءات دول أخرى كانت تتذّرع بأمريكا والحصار الجائر على سورية، كما كشف بكل جلاء عن وجه الغرب العنصري تجاه سورية المنكوبة ، حيث أن الخطاب الغربي في التعامل مع تداعيات هذه الكارثة جاء مرتبكاً ومتناقضاً أحياناً ، قبل أن تبدأ رحلة البحث عن مخارج تبقيه بمنأى عن الوقوع في براثن الصراعات الجيوسياسية .
بالمطلق لم يكن تعامل دول العالم مع سورية بمثل تعاملها مع تركيا، إذ لم يكن الرادع الإنساني كافياً لتأخذ دوراً إنسانياً يسجّل لها، طبعاً مع إستثناءات لبعض الدول التي سجّلت حضوراً رغم الحصار، وتركت بصمات من الخير لا ينساها السوريون، في بلد منهك ومتعب إقتصادياً ومعيشياً، بعد حرب كونية دامت أكثر من 11 عاما …
وحتما عمليات الإنقاذ لم تشهد نفس التعاون في الدولتين، رغم أن الكارثة واحدة .. فتركيا تمتلك كامل المقومات، فهي لم تتعرض لهزات سياسية أثرت على نهضتها وبنيتها التحتية ، بل إنها تلقت الدعم الكامل من عشرات الدول مباشرة، بينما الأمر في سوريا مغاير تماماً، إذ إن البلاد قد أنهكتها الحرب ودمرت بناها التحتية مما جعلها عاجزة عن إنقاذ المتضررين وعدم إستجابتها السريعة في مثل هذه الأزمة .. وفي هذا الظرف الحرج، يتعين عدم تسييس الفاجعة، والعمل على تجاوز العقوبات المفروضة والخلافات السياسية السورية البينية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في بلد يعيش دمارا شاملا .. فالضحايا هم مدنيون من أطفال ونساء وعجائز، وليسوا مسؤولين يتبعون للطرف هذا أو ذاك .. وفي هذا السياق يسقط كل الكلام والخلافات السياسية أمام هول الفاجعة والكارثة التي أدت بحياة عشرات الألاف من الأبرياء …
كارثة بهذا الحجم، لم تكن تحتاج للكثير من التردد في الظروف العادية، ولكن الخطاب الغربي ظل يصّر على إعطاء الأولوية للسياسي على الإنساني، بقدر ما كان يخشى السقوط «الأخلاقي»، وهو ما دفع واشنطن إلى الإعلان عن تجميد مؤقت لبعض جوانب العقوبات المفروضة على دمشق لمدة ستة أشهر، فيما إتخذت أوروبا موقفاً هلامياً يسمح لدول الإتحاد بإرسال مساعدات إلى سوريا عبر منظمات غير حكومية .. في حين هبت معظم الدول العربية والإسلامية لنجدة سورية وكسرت الحصار الجائر المفروض على الشعب السوري ، وفتحت المعابر الجوية وخطوط الإغاثة صوب مطارات سورية، وكان تدخّلها الإنساني الكبير ردّاً على الإذعان للحصار والعقوبات الأمريكية وعقوبات الدول الأخرى ضد سورية ، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة التي كانت عونا للشعب السوري بدون تمييز ، ففتحت جسورا جوية وقدمت المساعدات المادية والعينية ، والجزائر وتونس ومصر والأردن والعراق ولبنان والأردن وإيران …
مشكلة الخطاب الغربي تكمن في إزدواجية المعايير وإصراره على تكريس أولوية السياسي على الإنساني في التعامل مع تداعيات الزلزال، بينما الحقيقة هي أن الزلزل العابر للحدود لم يفرق بين سوري وآخر ولا بين سوري وتركي، وأن الكارثة أصابت الجميع دون تمييز …
لقد سمع العالم الآهات والنداءات وشاهد صور الإطفال تحت الأنقاض ، لكنه إنسلخ عن إنسانيته وأظهر وجهه الحقيقي الذي يفتقد لكل إنسانية ورحمة .. في هذا السياق أمل أن تكون هذه الكارثة فرصة لسوريا للعودة للحضن العربي وفرصة لكل الدول الشقيقة للوقوف معها لملمة جراحها ومساعدتها في إعادة إعمارها .. فسوريا تاريخيا كانت وستظل بوابة الشرق ومهد الحضارات وملجأ لكل من ليس له وطنا ووطنا لكل من إستجار بها ، وستظل دمشق عاصمة الثقافة والفن وعبق التاريخ مهما حاولوا طمس تاريخها وهويتها .
الإنسانية تنتصر، الكوارث تباغتنا وتمتحننا نحن البشر، نعجز أمامها وتسقط كل الحسابات والصراعات .. فليت العالم يعيد حساباته ويضع الإنسان والإنسانية في مقدمة حساباته وهو يخطط ويرسم ويفرز الدول والبشر وفق خنادق ضيقة ونزاعات بشعة وحسابات دنيئة .
الله يحفظ البشرية ويعم السلام في كل أرجاء الأرض .