إكتملت خريطة الطريق بتونس بإنتهاء الإنتخابات التشريعية يوم 17 ديسمبر الماضي ، مما يعني أن العملية السياسية مضت في مسارها المرسوم منذ 25 يوليو 2021 .. إنتخابات أقيمت تحت قانون جديد ألغيت فيه الحصانة البرلمانية، أملا في القضاء على الفساد السياسي والمالي والفوضى الأمنية، وذلك في إطار خارطة الطريق التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد في يوليو 2021.
أول إنتخابات تشريعية في ظل مقاطعة أغلب الأحزاب التي كان معظم أعضاؤها يشغلون مقاعد مجلس نواب الشعب المجمّد، وحتى أولئك الذين برزوا بمعارضة إجراءات الرئيس المنتخب قيس سعيد، برصيدهم الشعبي صفر فاصل، أعلنوا رفضهم لمبادرته في محاربة الفساد والمفسدين، قاطعين طريق تفهّم أغلبية الشعب لمشروعه الإصلاحي، و واصفين إيّاه بالمستبدّ والحاكم بأمره …
حتما أن نتيجة الإنتخابات كانت ضئيلة جدا (بنسبة 11,2%) مقارنة بالإستحقاقات الإنتخابية السابقة ، والتي لها أسبابها وظروفها السياسية والإقتصادية والإجتماعية وحيثياتها وتداعياتها التي أثرت قطعا على الناخب التونسي الذي يعيش في ظروف صعبة، في ظل غلاء المعيشة ونقص في المواد الأساسية المعيشية وحتى الأدوية ..لكن حتما إتمام الإنتخابات التشريعية وإختيار برلمان جديد من الشعب وفق قانون الإنتخابات الجديد، رغم كل تحركات القوى المعارضة لهذا المسار لتجييش الشارع على مقاطعة الإنتخابات ، يعتبر تحدي وتحدي كبير وبمثابة نهاية حقيقية للعشرية السوداء التي دمرت البلاد والعباد ، وشهدت معدلات تاريخية من الفساد والإرهاب وتنامي الإسلام السياسي بتونس .
لا مجال للتشكيك أن نتائج الإنتخابات في دورها الأول كانت ضعيفة جدا، بما أن تقريبا 90% لم يصوتوا، ومن هنا يتوجب علينا أولا فهم حيثيات الأزمة وأسبابها العديدة ومن هي الفئات التي قاطعت الإنتخابات بكل واقعية وموضوعية .. بالمطلق هم ليسوا أغلبهم مع القوى المعارضة الكرتونية التي تحالفت من أجل إعادة المتوقع وليس من أجل المصلحة العليا لتونس ، فمنهم فئة الشباب المعروف بعزوفهم خلال معظم الإستحقاقات الإنتخابية السابقة بعد فقدان الأمل في التشغيل رغم الوعود السابقة واللاحقة بعد الثورة ، علاوة على الأزمة الإقتصادية والإجتماعية التي تعيشها البلاد والتي فقد فيها الشعب مقومات العيش الكريم وحتى أدنى ضروريات الحياة ، وأيضاً هناك بعضهم من فقد الثقة في مسار 25 جويلية وفي الرئيس قيس سعيد الذي لم ينفذ وعوده في سياق خارطة الطريق .. لكن رغم أن النتيجة صادمة إلا أن أغلبية الشعب يرى أن هذا الإستحقاق قطع مع البرلمان الماضي الذي تجاوز كل الحدود لترذيل المشهد السياسي والإساءة لصورة وهيبة تونس ، في ظل نظام سياسي هجين .
أما القوى المعارضة بمختلف أطيافهم ، ورغم كل التحركات التي قاموا بها وكل الإتصالات والشكاوى التي قدموها ضد الدولة التونسية متمثلة في شخص قيس سعيد للمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والهيئات الأممية ، وهي أبعد منها للمواقف العقلانية والمدروسة والتي لم يفلحوا فيها، فقد إتضح أنهم فقدوا شرعيتهم والثقة لدى قواعدهم شعبيا، وكشفت نواياهم وممارساتهم اللاوطنية ، ولم يعد لهم أي تأثير في ظل بلاد تعيش أزمات خانقة ومديونية كبيرة .
في حين أن رئيس الجمهورية قيس سعيد أكد مجددا على أن مسار يوليو هو مسار تصحيحي ولن يتراجع عن تلك القرارات، وأن مرحلة قبل ال25 من يوليو هي محطة مفصلية وصفحة طويت من تاريخ تونس ولا مجال للعودة للوراء .. وهذا ما جعل كل القوى المعارضة تصفه بالمستبد من خلال إستيلائه على السلطة، وفق صلاحياته ونفوذه المطلقة التي منحها أياه الدستور الجديد في سياق نظام سياسي رئاسي .
وفي ظل هذه الأزمة لا يوجد البديل أو بالأحرى أي مبادرة وطنية لإنقاذ البلاد .. فخيارات كل المعارضة بجميع أطيافها غير مقبولة شكلا ومضمونا من حيث الشرعية ، حيث طرح البعض مسألة تنويع التحركات السياسية مثل عودة عمل البرلمان والتصويت على عزل الرئيس، لكنها تبقى أمالا واهية و وسيلة ضغط لا أكثر لإصطدامها بطريقة التنفيذ نظرا لعدم شرعيتها رغم بعض الدعم الخارجي الإقليمي والدولي لها، والتي لم تلق دعما شعبيا بعدما لفظ الشعب كل القوى السياسية بالبلاد التي خيبت آمالهم وأصبحت ورقة محروقة إنتهت صلاحياتها ، وأصبح همهم الوحيد لقمة العيش الكريمة …
ومن أجل تونس ومن باب المصلحة العليا على الجميع القيام بمراجعات جذرية ، فتراجع خطوة قيس سعيّد في الإمتحان الحالي من خلال نتائج الإنتخابات التشريعية لا يجب أن يُفهم من المعارضين على أنه حنين للماضي ولا الرجوع للوراء ولا شرعية لهم .. ومن هذا المنطلق يتوجب على بعض الشخصيات الوطنية الفاعلة والمستقلة أن تتقدم بمبادرة لحوار وطني يقصى منه كل من أجرم في حق الشعب والبلاد، وتقوده من أجل إستقرار البلاد وتحديد أولويات المرحلة التي تتمثل في تأمين الضروريات للشعب الذي يعاني ويقاسي جوعا وبؤسا، وأصبح ما يهمه هو قوته وأمنه بعيدا عن كل المصالح الحزبية الضيقة والتجاذبات السياسية .. هذا ما يريده الشعب .. وهذا ما نأمله من أجل تونس حرة أبية مستقرة آمنة نعود إليها وطنا ، حتى لو كنا نعيش في أرغد العيش بالمهجر .
عام سعيد مبارك تنعم فيه البشرية بالسلام والأمان .