بحلول تاريخ 31 أكتوبر 2022 دخل لبنان مرحلة الشغور الرئاسي بعد نهاية ولاية الرئيس ميشال عون ، وبعد جلسة أولى وثانية وثالثة ورابعة لم يكتمل فيهما النصاب لإختيار رئيس جمهورية لبنان العتيد ، وهذا يدل أن الطبخة الإقليمية والدولية لم تنضج بعد في بلد يصنع فيها الرئيس من الخارج ، وفق أجندات خارجية وصفقات سياسية .. طبعا هذه ليست المرة الأولى التي يدخل فيها لبنان شغورا رئاسيا أو تمديدا، فقد حصل في السابق وهكذا أصبح قدر لبنان ، وهذا ما أعاد للأذهان “التسوية السياسية “التي حصلت في سنة 2016 والتي أوصلت الرئيس ميشال عون إلى للحكم بعدما ظل المنصب شاغرا لمدة سنتان ونصف بالكمال والتمام بعد مغادرة الرئيس ميشال سليمان .. وهذا يدل على عمق الأزمة وعدم توافق الفرقاء بلبنان في بلد يعطي قيمة للرئاسة الأولى لرمزية المنصب الذي يتجاوز مفهوم الكرسي ومحدودية الصلاحيات الذي صاغه إتفاق الطائف …
فقد كان لبنان عبر التاريخ رمز الثقافة والتعايش السلمي والتنوع وحرية الرأي .. فسيفساء جميلة بكل أطيافها وأنواعها وأشكالها ، والآن أصبح شكلا ممزوجا بالدولة المنهارة المفلسة والتجاذبات السياسية والطائفية، وبالشعب الذي خسر أدنى مقومات الحياة الكريمة لا خبز ولا ماء ولا دواء ولا كهرباء ، وحتى مدخراته تبخرت .. وأصبح حلمه الوحيد الهجرة حتى على قوارب الموت في ظل أزمة سياسية وإقتصادية قاتلة ومستقبل مجهول …
المشهد اللبناني يزداد غموضا وتعقيدا في ظل الصراعات والخلافات السياسية ويتصاعد الخلاف بشأن تولي الحكومة الحالية صلاحيات الرئيس، وهي المعتبرة دستوريا مستقيلة منذ الإنتخابات البرلمانية في مايو الماضي ، حيث قرر عون ، قبيل مغادرته القصر الجمهوري ، توقيع مرسوم إعتبار حكومة تصريف الأعمال مستقيلة في خطوة تزيد من تعقيدات الفراغ الرئاسي ، بينما يعتبر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن حكومة تصريف الأعمال ستواصل ممارسة مهماتها ويعتبر أن المرسوم يفتقر إلى أي قيمة دستورية …
فبعد إخفاق الجلسة الأولى والثانية والثالثة والرابعة لإنتخاب رئيس توافقي بمجلس النواب ، ومعركة الأوراق البيضاء التي تدل حتما على نية التعطيل وعرقلة الجلسات للوصول إلى عدم إكتمال النصاب ، هذا ما يدل أن القوى الأجنبية بما فيها الإقليمية الراعية لهذا الإستحقاق كانت حاضرة بقوة وأن كل الجلسات عملت على تموضع القوى السياسية وفق أجندات سياسية خارجية .. وهذا ما كان جليا للوصول لهذا السيناريو الخطير الذي سيعمق الأزمة في ظل حكومة تصريف الأعمال التي لا يمنحها الدستور الشرعية في إتخاذ مهام الرئيس في ظل الحكم البرلماني الهجين ، والتي تعثرت منذ أكثر من 5 أشهر في تشكيل الحكومة في ظل خلافات سياسية وإيديولوجية وطائفية عميقة .. علماً أن النصاب القانوني المطلوب لإنعقاد جلسة إنتخاب رئيس للجمهورية هو أكثرية ثلثي أعضاء البرلمان، والمرشح لرئاسة الجمهورية فهو يحتاج في الدورة الأولى للثلثين أي 86 نائباً، أما في الدورة الثانية فالمطلوب هو الأكثرية المطلقة أي النصف زائد واحد أي 65 صوتاً فقط .
كذلك هناك جدل دائم في لبنان في ما يخص الإستحقاقات الرئاسية ، حيث كان في أغلب الأحيان تمنح الأفضلية لقائد الجيش للحكم ، بدأ ذلك مع فؤاد شهاب في 1958 وأميل لحود في سنة 1998 وميشال سليمان سنة 2008 وصولا إلى الجنرال ميشال عون في سنة 2016 ، وذلك لعدة إعتبارات كونه أولا من الطائفة المارونية وطبعا بحكم أنه القائد الأعلى للمؤسسة العسكرية وملم بالملف الأمني .. وهذا السيناريو وارد في لبنان حيث تتجه الأنظار إلى العماد جوزيف عون ، والذي يفرض تعديلا دستوريا لكونه قائدا للجيش ، والذي يحتاج حتما في المرتبة الأولى لدعم داخلي من خلال توافق الفرقاء المسيحين على ترشحه وأيضا دعم إقليمي ودولي .. وبناء على ذلك تبقى المؤسسة العسكرية عنوان وحدة لبنان وصمام الأمان لما تؤديه من دور في تهدئة كل التوترات الأمنية والسياسية .
وفي الظروف الخطيرة ، من المتوقع بأن لبنان سيشهد طغيان الإستنزاف السياسي والدخول في المجهول في ظل فراغ رئاسي وحكومي متلازمين .. وهذا ما يطرح أسئلة حول المصلحة من المساهمة في تدهور الأوضاع، طالما ان لبنان ينتظر حلولا جذرية من أزمات لا عد ولا حصر لها ، تبدأ من الإنهيار الإقتصادي والإفلاس والأزمة الإجتماعية … ولا تقف عند حدود وباء الكوليرا.
على أية حال غادر ميشال عون القصر الجمهوري ببعبدا بعد 6 سنوات وبعد تأديته خطاب حمل فيه المسؤولية لكل الأطراف، وستظل فترة حكمه محل جدل ، ومن جهة آخرى مازالت صورة الرئيس الجديد لم تتبلور بعد ، وولادته قد تحتاج إلى زمن طويل تخطى 31 تشرين الأول وممكن أشهر وربما سنوات .. والقرار حتما قد لا يكون في لبنان حتى تأتي كلمة السر وفق التسويات السياسية والتدخلات الأجنبية التي عرفها لبنان عبر الزمن ، لأن لبنان يبقى عبر كل العهود والأزمنة دائماً بلد التوافقات الصعبة في زمن معادلة الحكم ، وفي هذا السياق يبرز التساؤل عن قدرة لبنان على تحمل كلفة الإنتظار في ظل الواقع الكارثي المتأزم ، ويبقى الغموض عنوان المرحلة مستقبلا في ظل سيناريوهات خطيرة …
الله يحفظ لبنان وشعب لبنان الكريم .