مازالت مصداقية وإستقلالية الإعلام تثير جدلا في زمن نعيش فيه تطور في تكنولوجيا الإتصال وفوضى وسائل التواصل الإجتماعي .. بالمطلق هذه المعايير هي مفاهيم ذوو معانٍ سامية، نظريا فهي قواعد وضوابط وسلوكيات تفرضها مواثيق المهنة ولكن تطبيقيا فهو موضوع متشعب من حيث الفرضيات والدلالات والتداعيات …
وللحديث عن إستقلالية الإعلام ، يستوجب تعريف الإستقلالية بوصفها مفهوماً نسبياً، وتحديد «الإستقلالية عمَّن؟ وماذا؟ وكيف ؟وبأي قدر؟».. أما الحديث عن إستقلالية تامة، فلا يطرح مفهوماً قابلاً للنقاش، يأخذنا هذا إلى إعادة صياغة مثل تلك الأسئلة لتعكس إعتباراً واجباً للأطر والمواثيق الحاكمة للصناعة ، وهو قانون شرف المهنة وما يسمى بأخلاقيات المهنة .
أن يكون الإعلامي مستقلا فهذا يعني أن يكون له رأي وفكر ونهجٌ يتماشى مع ضوابط شرف المهنة التي تفرض معايير معينة تتمثل في المصداقية والأمانة والحيادية والموضوعية ، في زمن أصبح الحديث عن المصداقية والحياد خيالا وكأنه صيغة هلامية لم ولن توجد في الواقع .. والحديث عن هذه المعايير تتسم بقدر واضح من النسبية التي تتوه في ظل الولاءات والإنتماءات والتبعية …
حتما الإعلام كأحد العلوم الإنسانية له شروطه وأخلاقياته ، لكن يبدو أن هناك صعوبة كبيرة في تحقيق الإستقلالية في مجال الإعلام بأنواعه ووسائله كافة، لأن كل وسيلة إعلامية، صغُرت أو كبُرت، يتم تمويلها من طرف رؤوس أموال أو أحزاب أو حكومات يملكون المؤسسة الإعلامية ، وبالتالي فإنها تعكس بالضرورة وجهات نظرهم وسياساتهم ومواقفهم، وفي سياق هذا التوجه لا يمكنهم توظيف أشخاص لا يطبقون سياساتهم، ولا يمكنهم قبول مقالات ودراسات تتعارض مع سياسة ونهج مؤسساتهم .. لذلك في معظم الحالات يجبر الإعلامي على الإلتزام بالخط التحريري للمؤسسة على حساب كل المبادىء والقيم .
فإذا سلمنا أن الإعلام صناعة ، وأن معظمه رديء ومنحاز وغير مستقل ، فسيأخذنا ذلك إلى التسليم أيضاً بأن تلك الصناعة تنشأ وتنشط ضمن شروط الأزمة وإطار عمل واضح يفرضه رأس المال والمصالح المشتركة .
تتنوع وسائل الإعلام بأشكالها كافة، المرئية و المسموعة والصحافة المكتوبة ، أو وسائل التواصل الإجتماعي الحديثة مثل «فيس بوك» و«تويتر» وغيرهم، يظل الإعلام هو السلطة الرابعة النافذة التي أصبحت تصنع الأحداث بما فيها الأزمات .. وفي هذا السياق أصبح الإعلام اليوم يترنح بين المصداقية أو إستغلال فكر الأفراد وتسيير أفكارهم إلى إتجاهات قد تكون غير مرغوبة، وتصل أحياناً إلى الأفكار المشوهة، لأن تلك الوسائل الإعلامية هي الأسرع تأثيراً على مستوى الفرد أو حتى المجتمع، بما أنها لا تخضع للرقابة ولا تلتزم بمعايير أخلاقيات المهنة .
فمهما إختلف المستوى العلمي والفكري والثقافي في المجتمع، فإن الجميع تحت تخدير تلك الوسائل .. فالإعلام سلاحٌ ذو حدين، إما أن يبني ويرتقي بالفرد ويخدم المجتمع أو يضلل الفرد والمجتمع ويرسخ القيم غير المرغوبة ويساهم في تهميش وتسطيح العقول وتدهور مستويات الذوق العام ، وتوجيه الرأي العام .
حتما تحديد أهداف وأدوات الإعلام ومذاهبه ، يجب أن يتطور مع تطور وعي الجمهور الذي يتلقى الرسائل .. فلم يعد الجمهور هو ذاك الذي كان مبهورا فقط ، في أن يمتلك جهازا تكنولوجيا ، يرى فيه، وفي كل ما يصدر عنه أمرا مدهشا ، ولم يعد الجمهور ذاك الذي يقبل بتلقي الرسالة للعلم فقط ، بل هو الجمهور الذي أضحى يحلل ويناقش ويحسن ربط الأحداث مع بعضها البعض ويميز بين الخبر الصحيح والزائف ، ويتناقل المستور والمعلن منها في إطار وعي فكري .
لذلك يبقى مصطلح ” إعلام مستقل ” هو أقرب للتنظير منه إلى الحقيقة .. في كل الأحوال لا توجد وسيلة إعلام في العالم تحمل شعار ” الإستقلالية ” لأنه في الحقيقة وعلى أرض الواقع لا يوجد إعلام مستقل بما للكلمة من مفهوم دقيق ، ولو كان في سياق الديمقراطيات العريقة التي تتشدق بها بعض الدول .. حتما من يملك المال والإعلام يملك الرأي والقرار والسلطة .